صناعة البرمجيات وأوهام الثراء السريع 

أثار حديث الرئيس خلال افتتاح مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية الكثير من الجدل في أوساط العاملين بمجال التكنولوجيا. وبينما أجد أن أي خطوة حكومية داعمة لصناعة التكنولوجيا هي خطوة إيجابية، ففي الوقت نفسه علينا مناقشة التوقعات اللامنطقية للدولة من هذه الصناعة، وخصوصًا من المبرمجين المستقلين. علينا أولًا شرح كيفية عمل السوق عامة، والتطورات المستجدة الغائبة عن حسابات وتوقعات الدولة.

ترسخت صناعة البرمجيات والتكنولوجيا في مصر منذ التسعينيات تقريبًا. قد نجد أثرًا لشركات تكنولوجيا تعود إلى الثمانينيات عملت على تصنيع برمجيات محلية للعديد من الصناعات، لكن مع زيادة سهولة الوصول إلى أجهزة الكومبيوتر الشخصية بدأ ظهور مبرمجين مستقلين في محافظات مصر المتنوعة، يعملون في الغالب على برمجيات صغيرة للاستهلاك المحلي، مثل اسطوانات البرامج الدعوية، وبرامج المحاسبة والمخازن الصغيرة وغيرها.

في ذلك الوقت، لم يكن تعلم البرمجة متاحًا في أغلب جامعات مصر، ولم يكن الإنترنت موجودًا بعد، أحد الكنوز التي حصلت عليها أنا وإخوتي في التسعينيات كان كتابًا لتعلم البرمجة سافرنا من الزقازيق إلى القاهرة خصيصًا لشرائه من معرض الكتاب، نظرًا لعدم توفر كتب تعليم البرمجة في المحافظات.

وبالفعل كما أشار الرئيس في خطابه، كان المجتمع في ذلك الوقت يتعامل مع البرمجة وكأنها هواية، بل أذكر النقاشات المطولة مع والدي لإقناعه بإلحاقي بكلية الحاسبات والمعلومات بدلًا من الهندسة. ظل أبي غير مقتنع بقراري إلى أن حصلت على أول راتب لي بعد التخرج. 

في بداية الألفية، حدثت طفرة في سوق البرمجيات في مصر نتيجة لزيادة الطلب على البرمجيات المتخصصة في العديد من المجالات وليس فقط بناء مواقع الإنترنت. وبسبب انتشار كليات الحاسبات والمعلومات أصبح عدد المبرمجين المؤهلين لسوق العمل في تزايد مستمر، ما لفت أنظار الكثير من الشركات العالمية فافتتحت مراكز تطوير للبرمجيات في مصر على غرار فعلته في أسواق ناشئة أخرى مثل الهند وإندونيسيا.

شكّل ذلك في وقته فرصة أمام الدولة للتوسع في تلك الصناعة، لكن تجارب كثير من الشركات فشلت بسبب عدم توفر البيئة القانونية والبنية التحتية المناسبتين. رغم ذلك، استمرت شركات صغيرة تصدر برمجياتها للعديد من الأسواق العالمية. 

أصبح النموذج الأكثر انتشارًا هو أن تفتتح شركة أوروبية أو أمريكية مركزًا لتطوير البرمجيات في مصر، على تتولى تسويقها في البلد الأم للشركة، وما يزال هذا النموذج موجودًا حتى الآن.

في أوج ذلك الانتعاش، لم يتجاوز راتب المبرمجين الثلاثة آلاف دولار في الشهر على الأكثر سوى في حالات نادرة شكّلت الاستثناء لطبيعة عمل المبرمج المعقدة للغاية والغير قادر على عملها سوى عدد قليل من المبرمجين وتحتاج إلى سنوات من التجهيز والتدريب، فما هي المجالات الأخرى التي يعمل بها الغالبية العظمى؟

بالطبع فإن صناعة البرمجيات متداخلة تقريبا مع كل الصناعات الأخرى بكل أشكالها، ومجالات عمل المبرمجين متنوعة للغاية بداية من برمجة الدوائر الإلكترونية مرورًا ببرمجة تطبيقات الموبايلات وحتى تطبيقات البرمجيات السحابية، وإدارة الأنظمة، إلخ إلخ.

عبر السنين يزداد الطلب على مجال وينخفض في مجال آخر على حسب متطلبات السوق العالمية، مثلًا كان عدد وظائف مبرمجين تطبيقات المحمول في مصر يعد على الأصابع في مطلع الألفية واقتصرت على وظائف تعريب برمجيات الهواتف العالمية بينما كان الطلب أكثر انتشارا على مطوري برمجيات الويب نظرا لانتشار الانترنت حول العالم.

هناك من يرجح أن يقل الطلب على جميع الوظائف مع الوقت لأسباب كثيرة، منها تغير نمط العمل بشركات البرمجيات الكبرى والتطور في أدوات الذكاء الاصطناعي، في مقابل تقارير تتوقع أن يستمر الإقبال على صناعة البرمجيات بل سيستمر في تزايد وإن قلت معدلات هذه الزيادة.

لكن ما يجمع عليه الجميع أن نوعية التدريب المطلوب هي التي سوف تتغير لا محالة.

ولأن الخلفية الأكاديمية غير ضرورية للدخول إلى صناعة البرمجيات، فقد انتشرت حول العالم أكاديميات الـcodecamp، وهي برامج تدريبية تقدم المهارات الأساسية اللازمة المؤهلة للعمل في أنواع العمل التقنية البسيطة مثل تطبيقات الهواتف ومواقع الويب.

ساهمت تلك البرامج التدريبية في تأهيل آلاف العاملين في الصناعة ليكونوا قادرين على العمل مبرمجين أحرار أونلاين، بمقابل مادي بالعملة الصعبة. الدخول إلى هذا الحقل ليس شديد الصعوبة وبالتالي فالمنافسة فيه شديدة الشراسة، لك أن تتخيل أن مئات آلاف من الهند وحدها يدخلون هذه السوق سنويًا.

ولكن مع التطور في الأدوات المساعدة للمبرمجين، هل سيبقى عدد الوظائف المتوفرة في تزايد؟

أصبح تطوير المواقع البسيطة أمرًا لا يحتاج إلى خبرة برمجية باستخدام مواقع الـno-code التي تتيح بناء مواقع كاملة بسهولة. بل إن هناك منصات متاحة تستطيع من خلالها بناء تطبيقات هواتف أيضًا دون كتابة سطر كود واحد. وهذه الأدوات في تزايد مستمر وبالتالي فإن المهام البرمجية البسيطة في تناقص مستمر طوال الوقت.

مع الاعتذار لزملاء الكار، فالبرمجيات ليست صناعة استثنائية أو علمًا فريدًا من نوعه، بل صناعة تنطبق عليها كل نظريات سوق العمل من القيمة والندرة والمنفعة، إلخ. مثلًا؛ 

فإذا عقدنا مقارنة مع صناعة مثل النجارة، ما هي الأدوات والمهارات التي يحتاجها نجار الباب والشباك مقارنة بنجار الأرابيسك؟ سنجد أن مهارات وأدوات نجار الباب والشباك أقل من نجار الأرابيسك وبالتالي فعدد نجارين الباب والشباك أكبر بكثير من نجارين الأرابيسك (الندرة) ولذلك فإن المقابل المادي لإصلاح أو تركيب مقبض شباك أقل من المقابل لتنفيذ شباك أرابيسك متقن بعناية إذا ما استثنينا قيمة المواد الأولية.

نفس النموذج ينطبق على صناعة البرمجيات، المهارات المطلوبة لصناعة معظم تطبيقات الهواتف قليلة بسبب تطور الأدوات وتوفر المواد التعليمية لتلك الأدوات بكل اللغات، نفس الشئ ينطبق على بناء مواقع الويب البسيطة، وعلى الناحية الأخرى فالمهارات المطلوبة لعلماء البيانات أو تطبيقات الذكاء الاصطناعي صعبة وتعتمد على علوم أخرى مثل الجبر والإحصاء، لن يمكن لأحد تعلم بناء نماذج ذكاء اصطناعي قبل النجاح في دورة بدائية على الأقل في أساسيات الإحصاء وأساسيات الجبر.

في الوقت الحالي متوسط راتب مطور مواقع الويب في أمريكا حوالي تسعين ألف دولار في السنة، ليس في الشهر، ويعتقد أن ذلك المتوسط سوف يتجه إلى الانخفاض بسبب تزايد تلك الأدوات والمنصات السابق ذكرها، فما هي الوظائف البرمجية سهلة التأهيل التي يصل راتبها إلى عشرة آلاف دولار في الشهر؟

تلك الأرقام لا يمكن وصفها بالغير دقيقة لأنها أرقام خيالية.

أعتقد أن مصدر تلك الأرقام هو هالة الأوهام المرتبطة بصناعة التكنولوجيا حول العالم، بدأت تلك الأساطير في الانتشار مع صعود بيل جيتس إلى المركز الأول بين أكثر البشر ثراء في الكوكب في التسعينات واستمرت تلك الأساطير في البقاء بسبب حالات قليلة جدا بين مئات الآلاف من العاملين في مجال التقنية، بالفعل هناك حالات للثراء السريع في تلك الصناعة بسبب طفرات نمو لبعض الشركات الناشئة ولكن ما يخفى على الجميع أن نسبة فشل الشركات الناشئة بين ٩٢ و ٩٥ في المئة، أي أن أقل من عشرة بالمائة من تلك الشركات الناشئة تستمر في العمل من الأصل وأقل من ذلك الرقم بكثير يصل إلى مرحلة النمو المقدرة بالملايين. تلك الحالات النادرة في رأيي هي سبب تلك الأسطورة المنتشرة منذ أكثر من عشرين سنة ولكن لن يكون كل العاملين بمجال التكنولوجيا مارك زكربرج أو جيف بيزوس أو بيل جيتس. 

مازلت أشجع الشباب على الدخول إلى مجال البرمجيات وأعتقد أن الصناعة باقية بالرغم من كل التطورات في الذكاء الاصطناعي التوليدي ولكن يجب أن لا نصدر الأوهام المتعلقة بالدخل المتوقع للشباب من تلك الصناعة، أزعم أن أفضل راتب لشاب حديث التخرج اليوم في القاهرة لن يتجاوز العشرة آلاف جنيه مصري. ليس عشرة آلاف دولار…